الشرق - الاربعاء ٢ ديسمبر
٢٠٠٩
تحديات القطاع الخاص
بعد الأزمة المالية
بقلم الدكتور: لويس
حبيقة
معظم الدراسات التي عالجت موضوع الأزمة المالية العالمية الحالية ركزت على
نتائجها الكلية أي على البطالة والنمو والفقر وهذه أمور في غاية الأهمية.
إلا أن المهم أيضا دراسة أوضاع القطاع الخاص في ظل الأزمة لمواجهة التحديات الكبرى
التي لا ترتبط فقط بها، وإنما أيضا بالبيئة والاستثمار والتنوع في الإنتاج وغيرها.
هنالك شركات تستفيد من الأزمة من ناحية إيجاد فرص جديدة لها. حوالي نصف شركات مؤشر
الـ 500 الذي تصدره مجلة "فورتشون" الأميركية تأسس في أوقات الركود أو في أوقات التباطؤ
الاقتصادي.
بين سنتي 1956 و 1981 كانت تغادر 24 شركة كل سنة مؤشر "فورتشون" بسبب الإفلاس أو انخفاض
الحجم، وارتفع هذا العدد إلى 40 في فترة 1982 / 2006. في الولايات المتحدة انخفض إنتاج
الشركات الصناعية العملاقة من الناتج من 36 % في سنة 1974 إلى 17 % في سنة 1998 مما
يدل على التغير الكبير الحاصل في الأسواق بفضل التأسيس المستمر للشركات الجديدة الصغيرة
والمتوسطة الحجم. ليس المهم فقط تسهيل تأسيس الشركات وإنما أيضا إعطاءها فرص النمو.
في دول الوحدة النقدية الأوروبية، فقط 5 % من الشركات التي تأسست منذ سنة 1980 وصلت
إلى مصاف الشركات الألف الأوروبية الكبرى مقارنة بـ 22% في الولايات المتحدة مما يدل
على المزايا المضافة التي تتمتع بها الأسواق الأميركية.
بعد انتهاء الأزمة لا بد من التفكير مجددا بأوضاع الشركات ومستقبلها، إذ لا يمكن بناء
اقتصاد قوي إذا كانت شركات القطاع الخاص متعبة ومرهقة بالديون وتفتقد إلى رؤية مستقبلية
واضحة.
فالشركة الناجحة في القرن الـ 21 سترتكز على المعرفة التي تنتجها مجموعة عاملين مثقفين
ومتعلمين يرتبطون بأمثالهم في العالم عبر شبكات الاتصالات وخاصة الإنترنت.
للمقارنة مثلا بين وضعي شركتي "مايكروسوفت" و"ماكدونالدز"، نرى أن الأولى تحتوي على
عشر عدد موظفي شركة المأكولات السريعة وقيمتها السوقية هي 10 أضعاف.
هذا يعني أن السوق تقدر الإنتاج الفكري الذي يتحول إلى سلع وخدمات يحتاج إليها الإنسان
في عالم اليوم.
في كل حال هنالك علماء كثر كتبوا عبر الزمن عن وسائل تطوير القطاع الخاص وفي مقدمهم
"بورتر" و"فوكوياما" و"دروكير" و"سوروس" وغيرهم ولا بد من استخلاص أهم الدروس المناسبة
للأوضاع الحالية.
من تحديات صناعة اليوم هو التحديث والإنتاج مع احترام أوضاع البيئة التي وصلت مستوياتها
إلى حدود خطرة جدا. فالتلوث البيئي والسخونة الأرضية والأمراض التي تنتج عنها هي في
غاية الأهمية وتؤثر على نوعية الحياة وإنتاجية اليد العاملة.
لا بد من توعية الرأي العام على أهمية المواضيع البيئية التي فرضت انعقاد قمة "كوبنهاغن"
في الشهر الأخير من هذه السنة.
لا يمكن حماية البيئة إذا لم يكن هنالك تعاون كبير وفاعل بين الشركات والدولة تحت رعاية
ورقابة الرأي العام.
دور الدولة يكمن في فرض معايير احترام البيئة على القطاع الخاص، مما يجعل من وزارة
البيئة أهم الوزارات في عالمنا الحالي.
يمكن للدولة أن تفرض عقوبات على الملوثين كما تقدم حوافز ضرائبية للشركات التي تحترم
البيئة وبالتالي مجتمعها.
منذ منتصف سنة 1990، تقوم وزارة البيئة في كندا مرتين كل سنة بنشر أسماء الشركات التي
لا تحترم المعايير البيئية بالإضافة إلى مقاضاتها أمام المحاكم المختصة.
لا شك أن للسياسة الكندية تأثيرا أكبر بكثير من العقوبات أو الحوافز على تصرف الشركات
التي تخشى النتائج السلبية للإعلان الرسمي.
فلماذا لا نعتمد هذا الإجراء في عالمنا العربي بعد أن نحدد المعايير الواضحة والدقيقة
للاحترام البيئي التي يجب على القطاع الخاص الالتزام بها؟
ما هي أهم الخصائص التي يجب على الشركات التنبه لها منعا للسقوط، بل للفوز في الأسواق
التنافسية الكبرى؟ أولا: بسبب التطور التكنولوجي والإنتاج السريع والمستمر للسلع والخدمات
الجديدة، تنخفض أسعارها بسرعة. هذا هو حال معظم السلع والخدمات كالحواسب والهواتف والاستشارات
وغيرها بحيث تتطور إنتاجيتها بسرعة مع انتشار العلوم واكتشاف علاقات إنتاجية جديدة
وفاعلة.
يشكل هذا الواقع مصدر قلق للشركات بحيث تعجز أحيانا عن استرجاع تكلفة البحث والتطوير
والإنتاج ولا تستطيع تحقيق الأرباح التي طمحت بها. فالشركات تعجز عن وضع سياسات أسعار
مناسبة إذ إن المنافسة المحلية كما الدولية الآتية من الإنترنت تمنعها عمليا من التحكم
بالسوق ومن استغباء المستهلك.
في كافة الأسواق هنالك ضرورة للرقابة العامة المترافقة مع المنافسة كما يحصل في الأسواق
المصرفية وفي أسواق الأدوية والغذاء والنقل الجوي وغيرها. تبقى المنافسة مفيدة بل ضرورية
شرط تنفيذ الرقابة الجدية.
ثانيا: لمواجهة الواقع التنافسي الكبير وللاستمرار في السوق لا بد من تخفيض التكلفة
وهي العامل الوحيد الذي يقع تحت سيطرة الإدارة. يرتكز تخفيض التكلفة على استعمال عوامل
إنتاج متطورة بحيث ترتفع الإنتاجية. فالبحث عن طاقات بديلة أقل تكلفة يدخل في صلب البحث
الحالي خاصة في القطاع الصناعي.
أما عمليات الدمج فيمكن أن تساهم أيضا في تخفيض تكلفة الإنتاج عبر تنسيق استعمال الموارد
البشرية والمادية والتخلص من العوامل الفضفاضة التي تثقل كاهل الموازنات ولا تعطي النتيجة
المتوخاة.
ثالثا: لن تنجح الشركة في مواجهة السوق المفتوحة الواسعة فقط عبر تخفيض التكلفة، ولا
بد من الإبداع والخلق والتغيير وهي أساس الاقتصاد الحديث.
كان الاقتصادي "شومبيتر" من أبرز المؤلفين بشأن التجديد الذي يعتبر ركيزة الاقتصاد
الحر المتطور.
فالربح لا يأتي فقط من تخفيض التكلفة وإنما أيضا من زيادة قيمة المبيعات عبر الإعلانات
بفضل التغيير المتواصل تبعا لأذواق المستهلكين وتغير حاجات المجتمع.
رابعا: تبعا للعوامل المذكورة أعلاه، تصبح مشكلة الانكماش Deflation هي الخطرة والتي
يجب مواجهتها، وهذا ما عرفته اليابان في الماضي وما يمكن أن يحصل مجددا في الأشهر القليلة
القادمة. فالحكومات الحديثة التي نأمل أن ننعم بها في لبنان والمنطقة العربية هي التي
تواجه في نفس الوقت عالم جديد يرتكز على ارتفاع الإنتاجية وانخفاض الأسعار كما على
زيادة مخاطر الدورات الاقتصادية المرتكزة على التكنولوجيا المتطورة والمتغيرة.
خامسا: يبقى رأس المال الإنساني الأهم في هذا القرن وفي مواجهة هذه التحديات.
فالخلق والإبداع سيكونان مصدر الثروة والنمو الأساسي في العقود المقبلة. فقيمة التعليم
النوعي سترتفع، وسيتعزز وضع أصحاب الشهادات المميزة والتعليم النوعي المتفوق. فالعبرة
لا تكون في الحصول على الشهادة أي شهادة، وإنما في الحصول على أفضلها لأن النوعية وليس
الكمية هي التي ستوجه الاقتصاد المعاصر.
هنالك خوف حالي من عودة قوية للشركات الكبرى على حساب المتوسطة والصغيرة مما يمكن أن
يضر بمصالح المواطن والمستهلك ويدفع بدورة الأسعار صعودا. فالأزمة الحالية كما السياسات
الحكومية المتبعة ميزت الشركات الكبيرة على الصغيرة والمتوسطة.
سمح بإفلاس الأخيرة ومنعت الشركات الكبرى من السقوط أمثال "سيتي غروب" و"جنرال موتورز"
و "AIG"، وهذا مضر على المدى الطويل. إن الشح الإقراضي المصرفي يضر بالشركات الصغيرة
والمتوسطة التي لا تستطيع تمويل استثماراتها بسهولة من خارج المصارف.
كما أن القوانين
الجديدة الصارمة التي وضعت في السنوات الأخيرة نتيجة التهور والإفلاس والجشع تحد من
قدرة الصغار والمتوسطين على الالتزام بها، أي بمعاييرها المالية الدقيقة.