قطر-جريدة الراية
- الأحد ١٨ نوفمبر ٢٠١٢ م، الموافق ٤ محرم ١٤٣٤ هـ-
شبهة عدم الدستورية
في قانون المرافعات
بقلم : د. محمد بن
عبدالعزيز بن صالح الخليفي
إذا كانت القوانين بصفةٍ عامة ، والإجرائية منها بصفةٍ خاصة ، هي التي تكفل صيانة
الحقوق ، وتقرر احترامها ، فإن من الحكمة مراجعة التشريعات على ضوء ما يصاحب
المجتمع من تغيّرات ، وما تسفر عنه تطبيقاتها من إشكالات . فالتشريع يجتاحه ما يهبّ
على بيئته من أعراض الضعف والوهن ، فربما اعترى النص القانوني داءٌ عضال ، وربما
داخلته علة قادحة ، وليس من مخرج له إلاّ بمعاودة الفحص ودوام الاستطابة . ولو قيل
بمسيس الحاجة إلى جهاز رصدٍ قانوني ، وظيفته مراقبة التشريعات ، وقياس مدى استجابة
النص لمتطلبات الواقع ، ومدى صلة الواقع بمعطيات النص ، لما تجاوز قائله وجه الحق .
وأيّنا لا يعلم أن للقوانين الإجرائية أهمية خاصة في منظومة التشريعات ، باعتبارها
الطرق الممهدة لقواعد وأصول التقاضي ، غير أن قانون المرافعات المدنية والتجارية من
بينها يحتل مرتبة متقدّمة ، لأنهم يعدّونه القانون العام ، أو الشريعة العامة ،
للإجراءات القضائية ، فيتعين الرجوع إليه لاستكمال ما قد يشوب القوانين الإجرائية
الأخرى من نقص أو غموض أو إبهام ، والمراد بتلك القوانين ، قانون الإجراءات
الجنائية ، وقانون الفصل في المنازعات الإدارية ، ثم يأتي قرار مجلس الوزراء بشأن
القواعد والإجراءات أمام لجان فضّ المنازعات الإيجارية . فجميع هذه النظم الإجرائية
تستكمل ما قد يشوبها من نقص من قانون المرافعات المدنية والتجارية ، باعتباره
المرجع العام في العمل الإجرائي .
فقانون المرافعات في المحصّلة النهائية هو قانون النشاط القضائي للدولة ، بوصفه
القانون الإجرائي في جميع القضايا المدنية والتجارية ، وقضايا الأحوال الشخصية ،
والمنازعات البحرية والجوية ، والدعاوى العمالية ، إلى غير ذلك من القضايا ذات
الطابع الخاص .
وإن قانوناً هذه أهميته ليدعو الشارع بين وقت وآخر إلى مراجعته ، كما يدعوه أيضاً
إلى فحص مدى تكامل منظوماته القانونية ، في ضوء ما طرأ على التشريعات المقارنة من
تطورٍ في الصياغة والموضوع .
خذ مثلاً منظومة الإعلان في قانوننا الإجرائي ، فإن من وجوه المباينة للواقع ، ما
يلحظه المشتغل بالقانون من عدم إسناد مهمة الإعلانات القضائية إلى جهة محددة في
القانون ، تكون تابعة رسمياً لجهاز القضاء ، فليس من الصواب أن يعهد القانون بهذه
الوظيفة ، التي يتوقف عليها انعقاد الخصومات القضائية ، إلى جهة غير تابعة للمحاكم
، لاسيما أن هناك مسؤولية مدنية على متولّي الإعلان في حالة خطأه ، وجزاءات لقاء
إهماله ، ولا يتصوّر أن تُوكل هذه الأعمال إلى جهة ليس للمحاكم عليها إشراف إداري
مباشر .
كما كشف التطبيق العملي عجز مواد القانون عن مواجهة القصور في عناوين المتقاضين ،
مما ألجأ المحاكم إلى كثرة الإعلان بطريق النشر مع ما في ذلك من تشهير لا ترضاه
نفوس المواطنين ، أو الإعلان في مواجهة مدير الأمن العام ، وهو إجراء شكلي لا تتحقق
معه الغاية من العمل القضائي ، وأخيراً ظهرت صورة الإعلان بطريق البريد المسجل ،
وهي التي شجع عليها عمل لجان فض المنازعات الإيجارية ، وهذا طريق ليست له ضوابط
تضمن صحة إجرائه ، حيث تعهد به المحاكم إلى المتقاضين شخصياً للقيام به ، بينما
القاعدة في المرافعات أن الإعلان أياً كانت صورته لا يجوز تنفيذه إلاّ على يد الجهة
المكلفة بالإعلان القضائي .
كما لجأت المحاكم إلى الإعلان بطريق اللصق استناداً إلى عبارةٍ عامة ، لا تحتمله ،
وردت في خاتمة المادة ( 11 ) مرافعات ، وتلك صياغتها : « أو بأي طريق آخر تراه - أي
المحكمة - مناسباً » ، ومن البديهي أن هذه الصياغة معيبة ، لأنها تتضمن تفويضاً
بالتشريع ، فطرق الإعلان القضائي من قواعد المرافعات ، وقواعد المرافعات - كما هو
مسلّم فقهاً وقضاءً - ليس لها إلاّ مصدر واحد هو التشريع ، الأمر الذي يثير التساؤل
حول دستورية ذلك النص في المادة سالفة الذكر .
ولعلّ أول ما يستقبل متصفّح القانون من أهل الاختصاص ، ذلك الفراغ التشريعي في
قانون المرافعات من تنظيم أحكام « قواعد الاختصاص القضائي الدولي » ، وهي التي كان
من الواجب استفتاح قانون المرافعات بها ، ليكون موضعها في مستهل الكتاب الأول
المتعلق « بالتداعي أمام المحاكم » ، فالاختصاص الدولي مقدم على سائر أقسام
الاختصاص ، وتلك مسألة حتمية النظر عندما تعرض منازعة تشتمل على عنصر أجنبي في
ميدان القانون الخاص ، وفي ظلّ غياب تلك القواعد المنظمة للاختصاص القضائي الدولي
للمحاكم الوطنية ، تعجز المحكمة عن تلمّس الحدود التي تباشر فيها سلطتها القضائية ،
بالمقابلة للحدود التي تباشر فيها محاكم الدول الأخرى سلطتها القضائية .
وإن مما يدعو للتساؤل أيضاً ، أن المشرع الإجرائي لم يأخذ هذا الموقف السلبي تجاه
جميع قواعد الاختصاص القضائي العام ، فقد قنّن القواعد المتعلقة بتنفيذ الأحكام
والأوامر والسندات الأجنبية ( في المواد من 379 إلى 383 ) ! وليست هذه بأهم من
سابقاتها .
والحق أنه لم يتبين لي سبب هذا الإغفال للأحكام القانونية ، والذي يبدو أنه سمة
غالبة في التشريع بصفة عامة ، فإنه يُلاحظ كذلك على التقنين المدني ، النافذ حديثاً
في عام 2004م ، أنه أغفل تنظيم « الإعسار المدني » في الموضع المخصص لبيان وسائل
المحافظة على الضمان العام للدائنين ، كما أغفل في الموضع المخصص للعقود الواردة
على العمل من كتاب العقود المسماة تنظيم « عقد العمل » ، وكأن وجود هذا العقد من
الندرة في الحياة العملية بحيث لا يجدر إدراجه ضمن طائفة العقود المسماة ، بينما هو
في الواقع أكثر انتشاراً من عقد الإيجار !
وفي ذات السياق يقف القارئ في قانون المرافعات على عنوان « إجراءات الجلسة ،
ونظامها » ، ثم يصاب بالدهشة حين يجد جميع مواد الباب متعلقة « بنظام الجلسة » ،
أما عنوان « إجراءات الجلسة » فجاء غُفْلاً من النصوص القانونية ، بحيث أمسى
عنواناً بلا موضوع ، وهذا ما يتضح بقليل من المقارنة مع المصدر التاريخي لاكتشاف
هذا الفراغ .
وفي حقل المرافعات أيضاً يُلاحظ على قانونها كثرة الاقتباس من قوانين المرافعات
القديمة الملغية ، دون أن تظهر لذلك حكمة تشريعية .
وإذا كانت ظروف المقال لا تسمح بالتفصيل في بيان كل نص على حدة ، فإن من أوضح
الأمثلة على ذلك اقتباس القانون « نظام اعتراض الخارج عن الخصومة » ، ووضعه في باب
مستقل ، محتوياً على خمس مواد ! بينما تجاوزت التشريعات الحديثة وقت إعداد مشروع
القانون هذا الطريق ، واختصرت جميع مواده تلك في فقرةٍ موجزة أُلحقت بحالات التماس
إعادة النظر ، بحيث لم تعد شروح المرافعات الحديثة تتكلم عن ذلك النظام المهجور
إلاّ على أنه حالة من حالات الالتماس وباختصار شديد ، ويُضَاف إلى ذلك : نُدرة
اللجوء إلى هذا الطريق في العمل القضائي
ثم إذا ذهبنا إلى أبعد مما سلف ، ألفينا موضوعين كبيرين لم يعد قانون المرافعات
موضعاً مناسباً لهما ، وهما « باب التحكيم » ، و« كتاب الإثبات » ، فقد جرى العمل
التشريعي المقارن على إفراد كل واحدٍ منهما بقانون مستقل .
أما التحكيم فلأنه نوع من العدالة الخاصة ، والتي تخرج عن ولاية القضاء العادي ،
ولأن هيئة التحكيم في حلٍّ من الالتزام بإجراءات المرافعات الواجبة الاتباع أمام
قضاء الدولة ، فلا وجه إذن لإدراج نصوصه في تقنين لا يخضع لأحكامه .
وأما الإثبات فإن قواعده على قسمين ، موضوعية وإجرائية ، ولا قائل مطلقاً بمناسبة
قانون المرافعات لإسكان قواعد الإثبات الموضوعية بين منظوماته القانونية ، وليس
معنى ذلك أن الحل هو تشطير مواد الإثبات بين القانونين الإجرائي والموضوعي ، لما في
ذلك من مخالفة لأصول فنّ الصياغة التشريعية ، بل الأحرى والأوجب أن يأتلف شملها في
كوكبةٍ واحدة ، تُدعى « قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية » .
هذا في جانب الحذف ، وأما في جانب الإضافة ، فليس بعد اكتمال درجات التقاضي ما يدعو
إلى استقلال نظام الطعن بالتمييز المدني في قانون مستقل ، فإن مسوّغات تكامل نظرية
الطعن في الأحكام أن يجمع قانون المرافعات بين دفّتيه جميع طرق الطعن العادية وغير
العادية ، على نحو ما صنع المشرع في قانون الإجراءات الجنائية ، وكما هو الحال في
النظم المقارنة للمرافعات المدنية والتجارية ، لاسيما أن قانون حالات وإجراءات
الطعن بالتمييز في غير المواد الجنائية رقم 12/2005 لا يعدو أن يكون مستلّاً من
منظومته في قانون المرافعات المقارن .
ولقد كان من الغرابة أن يمكث مشروع قانون المرافعات الحالي في مسودته نحو عقدين من
الزمان ، حيث أُنشئت المحاكم العدلية عام 1971م ، بينما كان مرجعها في العمل مواد
ذلك المشروع ! ثم لم يصدر قانون المرافعات إلاّ في عام 1990م ، وعندما صدر بعد زمن
جاء على هذا النحو الذي نُشر عليه .
فإذا استبان أن هذا القانون محفوف بما يستدعي المراجعة ، بوصفه القانون الذي يكفل
صيانة حقوق المتقاضين ، ويعمل على ضمان استيفائها ، وصولاً إلى عدالة ناجزة ، وإذا
كان من توجيهات المشرع الدستوري إلى المشرع العادي ما نصت عليه المادة 135 من
الدستور الدائم ، بقولها : « التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة ، ويبين القانون
إجراءات وأوضاع ممارسة هذا الحق » ، فقد أضحى من المتعيّن على المشرع الإجرائي
الذهاب إلى التنقيح الشامل ، لاستدراك ما فات القانون الحالي من كمالات ، كان ينبغي
السعي إلى إحرازها منذ أمد بعيد .
ولا يصح أن يقال إن قانون المرافعات قانون شكلي ، على سبيل التقليل من أهميته ،
مثلما قيل في شروحه إنه قانون خادم للقانون الموضوعي ، فإن هذا القول يعلي منزلة
المرافعات ولا يدنو بها ، فالقانون الإجرائي هو قانون الوسائل ، ولا سبيل مطلقاً
للوصول إلى تطبيق القاعدة الموضوعية عند المنازعة إلاّ مروراً بالقانون الإجرائي .
أما الشكل فهو أهم الضمانات القانونية للمحافظة على الحق لئلا يقع التحكّم فيه ،
فالشكل هو مجموعة الضوابط والأصول المعينة ، واجبة الاتباع ، للفصل في الخصومات .
ومن الذي لا يعرف أن الحق مَدينٌ في حمايته لتلك الشكلية الإجرائية ، حتى قيل في
الشروح : إن الشكل تَوْأم الحرية ، ومن ثمّ فلا وجه للشكوى من الشكل ، أو الإزراء
به ، إلاّ بالقدر الذي يكون الطائر فيه محقاً من الشكوى بأن الهواء يعوق سرعته ،
دون أن يدري بأن الهواء هو الذي يحمله .
ولعل الخطوة الأولى في سبيل التنقيح ، إن رأى المشرع ذلك ، هو استطلاع آراء جمهرة
من فقهاء المرافعات بعد أن تعرض نسخ القانون الحالي عليهم لدراسته وتقديم النصح حول
مدى إمكانية الصعود بمجموعة المرافعات إلى مراتب متقدمة على ضوء آخر ما وصلت إليه
نظريات هذا العلم واجتهادات الباحثين ، كلّ ذلك مقارناً بالواقع الاجتماعي
والقانوني في دولة التشريع ورؤيتها المستقبلية .
أستاذ القانون التجاري المساعد - جامعة قطر
قانون
رقم (13) لسنة 1990م بإصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية
قانون
رقم (13) لسنة 2005 بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر
بالقانون رقم (13) لسنة 1990